سورة يوسف - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يوسف)


        


{ذلك} أي ذلك التثبيتُ المؤدي إلى ظهور حقيقة الحال {لِيَعْلَمَ} أي العزيز {أَنّى لَمْ أَخُنْهُ} في حرمته كما زعمه لا علماً مطلقاً فإن ذلك لا يستدعي تقديمَ التفتيشِ على الخروج من السجن بل قبل ما ذكر من نقص ما أبرمه ولعله لمراعاة حقوقِ السيادةِ لأن المباشرَة للخروج من حبسه قبل ظهورِ بُطلانِ ما جعله سبباً له وإن كان ذلك بأمر الملك مما يوهم الافتياتَ على رأيه، وأما أن يكون ذلك لئلا يُتمكن من تقبيح أمرِه عند ذلك تمحلاً لإمضاء ما قضاه فلا يليق بشأنه عليه السلام في الوثوق بأمره والتوكل على ربه جل جلاله {بالغيب} أي بظهر الغيبِ وهو حالٌ من الفاعل أو المفعول أي لم أخُنه وأنا غائبٌ عنه أو وهو غائبٌ عني أو ظرف أي بمكان الغيب وراءَ الأستار والأبوابِ المغلقة، وأياً ما كان فالمقصودُ بيانُ كمالِ نزاهتِه عن الخيانة وغايةِ اجتنابه عنها عند تعاضد أسبابِها {وَأَنَّ الله} أي وليعلم أنه تعالى {لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين} أي لا يُنفِذه ولا يسدّده بل يُبطله ويُزهِقه أو لا يهديهم في كيدهم إيقاعاً للفعل على الكيد مبالغة كما في قوله تعالى: {يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ} أي يضاهئونهم في قولهم، وفيه تعريضٌ بامرأته في خيانتها أمانتَه وبه في خيانته أمانةَ الله تعالى حين ساعدها على حبسه بعد ما رأوا آياتِ نزاهتِه عليه السلام ويجوز أن يكون ذلك لتأكيد أمانته وأنه لو كان خائناً لما هدى الله عز وجل أمره وأحسن عاقبتَه.
{وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى} أي لا أنزّهها عن السوء قاله عليه السلام هضماً لنفسه الكريمة البريئةِ عن كل سوء وربأً بمكانها عن التزكية والإعجاب بحالها عند ظهورِ كمالِ نزاهتِها على أسلوب قوله عليه السلام: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» أو تحديثاً بنعمة الله عز وجل عليه وإبرازاً لسره المكنونِ في شأن أفعال العبادِ أي لا أنزهها عن السوء من حيث هي هي، ولا أُسند هذه الفضيلةَ إليها بمقتضى طبعِها من غير توفيقٍ من الله عز وعلا {أَنَّ النفس} البشريةَ التي من جملتها نفسي في حد ذاتِها {لامَّارَةٌ بالسوء} مائلةٌ إلى الشهوات مستعمِلةٌ للقوى والآلاتِ في تحصيلها بل إنما ذلك بتوفيق الله وعصمته ورحمتِه كما يفيده قوله: {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى} من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المهالك ومن جملتها نفسي أو هي أمارةٌ بالسوء في كل وقت إلا وقتَ رحمةِ ربي وعصمتِه لها، وقيل: الاستثناءُ منقطعٌ أي لكنْ رحمةٌ بي هي التي تصرِف عنها السوء كما في قوله تعالى: {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً} {إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} عظيمُ المغفرة لما يعتري النفوسَ بموجب طباعِها ومبالِغٌ في الرحمة لها بعصمتها من الجريان بمقتضى ذلك، وإيثارُ الإظهار في مقام الإضمارِ مع التعرض لعنوان الربوبيةِ لتربية مبادىءِ المغفرةِ والرحمة، وقيل: إلى هنا من كلام امرأةِ العزيز، والمعنى ذلك الذي قلتُ ليعلم يوسفُ عليه السلام أني لم أخُنه ولم أكذِب عليه في حال الغَيبة وجئت بما هو الحقُّ الواقعُ وما أبرىء نفسي مع ذلك من الخيانة حيث قلت في حقه ما قلت وفعلتُ به ما فعلت، إن كل نفس لأمارةٌ بالسوء إلا ما رحم ربي أي إلا نفساً رحِمها الله بالعصمة كنفس يوسفَ إن ربي غفورٌ لمن استغفر لذنبه واعترف به رحيمٌ له، فعلى هذا يكون تأنّيه عليه السلام في الخروج من السجن لعدم رضاه عليه السلام بملاقاة الملكِ وأمرُه بَيْنَ بينَ ففعل ما فعل حتى يتبين نزاهتُه وأنه إنما سجن بظلم عظيم مع ما له من الفضل ونباهةِ الشأن ليتلقاه الملك بما يليق به من الإعظام والإجلال وقد وقع.


{وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ} أجعله خالصاً {لِنَفْسِى} وخاصاً بي {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} أي فأتَوا به، فحُذف للإيذان بسرعة الإتيانِ به فكأنه لم يكن بين الأمرِ بإحضاره والخطابِ معه زمانٌ أصلاً، والضميرُ المستكنُّ في {كلّمه} ليوسف، والبارزُ للملك أي فلما كلّمه يوسفُ إثرَ ما أتاه فاستنطقه وشاهد منه ما شاهد {قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ} ذو مكانةٍ ومنزلةٍ رفيعة {أَمِينٌ} مؤتمنٌ على كل شيء، {واليومَ} ليس بمعيار لمدة المكانةِ والأمانةِ بل هو آنُ التكلم والمرادُ تحديد مبدئهما احترازاً عن احتمال كونِهما بعد حين. روي أنه عليه السلام لما جاءه الرسولُ خرج من السجن ودعا لأهله واغتسل ولبِس ثياباً جُدُداً فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتِك من شرّه وشرِّ غيره ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال: ما هذا اللسانُ؟ قال: لسانُ آبائي، وكان الملك يعرف سبعين لساناً فكلّمه بها فأجابه بجميعها فتعجّب منه فقال: أحب أن أسمعَ منك رؤياي فحكاها ونعت له البقراتِ والسنابلَ وأماكنَها على ما رآها فأجلسه على السرير وفوّض إليه أمرَه، وقيل: توفي قطفيرُ في تلك الليالي فنصّبه منصِبه وزوجه راعيل فوجدها عذراءَ وولدت له إفراييم وميشا ولعل ذلك إنما كان بعد تعيينِه عليه السلام لِما عُيّن له من أمر الخزائنِ كما يعرب عنه قوله عز وجل: {قَالَ اجعلنى على خَزَائِنِ الارض} أي أرض مصرَ أي ولِّني أمرَها من الإيراد والصرف {إِنّى حَفِيظٌ} لها ممن لا يستحقها {عَلِيمٌ} بوجوه التصرّفِ فيها، وفيه دليل على جواز طلبِ الولايةِ إذا كان الطالبُ ممن يقدر على إقامة العدلِ وإجراءِ أحكامِ الشريعة وإن كان من يد الجائرِ أو الكافر.
وعن مجاهد أنه أسلم الملكُ على يده عليه السلام، ولعل إيثارَه عليه السلام لتلك الولايةِ خاصة إنما كان للقيام بما هو أهمُّ أمورِ السلطنة إن ذاك من تدبير أمرِ السنين حسبما فُصل في التأويل لكونه من فروع تلك الولايةِ لا لمجرد عمومِ الفائدة كما قيل، وإنما لم يُذكر إجابةُ الملكِ إلى ما سأله عليه السلام من جعله على خزائن الأرضِ إيذاناً بأن ذلك أمرٌ لا مردَّ له غنيٌّ عن التصريح به لا سيما بعد تقديمِ ما يندرج تحته من أحكام السلطنةِ بحذافيرها من قوله: إنك اليوم لدينا مكين أمين للتنبه على أن كلَّ ذلك من الله عز وجل وإنما الملكُ آلة في ذلك كما قيل.


{وكذلك} أي مثلَ ذلك التمكينِ البليغ {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} أي جعلنا له مكاناً {فِى الارض} أي أرض مصرَ. روي أنها كانت أربعين فرسخاً في أربعين وفي التعبير عن الجعل المذكورِ بالتمكين في الأرض مسنداً إلى ضميره عزّ سلطانُه من تشريفه عليه السلام والمبالغة في كمال ولايتِه، والإشارةِ إلى حصول ذلك من أول الأمرِ لا أنه حصل بعد السؤال ما لا يخفى {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا} ينزل من بلادها {حَيْثُ يَشَاء} ويتخذه مباءةً وهو عبارةٌ عن كمال قدرته على التصرف فيها ودخولها تحت ملكتِه وسلطانه فكأنها منزلُه يتصرف فيها كما يتصرف الرجل في منزله. وقرأ ابن كثير بالنون. روي أن الملك توّجهُ وختمه بخاتمه وردّاه بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت فقال عليه السلام: أما السريرُ فأشدُّ به مُلكك، وأما الخاتمُ فأدبّر به أمرك، وأما التاجُ فليس من لباسي ولا لباس آبائي، فقال: قد وضعتُه إجلالاً لك وإقراراً بفضلك فجلس على السرير ودانت له الملوكُ وفوّض إليه الملكُ أمرَه وأقام العدلَ بمصر وأحبتْه الرجالُ والنساء وباع من أهل مصر في سِني القحطِ الطعامَ في السنة الأولى بالدنانير والدراهم، وفي الثانية بالحِليِّ والجواهر، وفي الثالثة بالدوابّ ثم بالضِّياع والعَقار ثم برقابهم حتى استرقّهم جميعاً فقالوا: ما رأينا كاليوم ملكاً أجلَّ وأعظمَ منه ثم أعتقهم وردّ إليهم أموالَهم وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثرَ من حمل بعير تقسيطاً بين الناس {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا} بعطائنا في الدنيا من المُلك والغِنى وغيرهما من النعم {مَّن نَّشَاء} بمقتضى الحكمةِ الداعية إلى المشيئة {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} بل نوفّيه بكماله، وفيه إشعارٌ بأن مدارَ المشيئةِ المذكورةِ إحسانُ مَنْ تصيبه الرحمة المرموقةُ وأنها أجرٌ له ولدفع توهم انحصارِ ثمرات الإحسانِ فيما ذكر من الأجر، قيل على سبيل التوكيد: {وَلأَجْرُ الاخرة} أي أجرهم في الآخرة فالإضافة للملابسة وهو النعيمُ المقيم الذي لا نفاد له {خَيْرٌ} لهم أي للمحسنين المذكورين وإنما وضع موضعَه الموصولُ فقيل: {لّلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} تنبيهاً على أن المراد بالإحسان إنما هو الإيمانُ والثباتُ على التقوى المستفادُ من جمع صيغتي الماضي والمستقبل.
{وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ} ممتارين لما أصاب أرضَ كنعانَ وبلادَ الشام ما أصاب أرضَ مصر وقد كان أرسلهم يعقوبُ عليه السلام جميعاً غيرَ بنيامين {فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ} أي على يوسف وهو في مجلس ولايته {فَعَرَفَهُمْ} لقوة فهمِه وعدم مباينةِ أحوالِهم السابقة لحالهم يومئذ لمفارقته إياهم وهم رجالٌ وتشابُه هيئاتهم وزِيِّهم في الحالين ولكون هِمَّته معقودةً بهم وبمعرفة أحوالهم لا سيما في زمن القحط، وعن الحسن ما عرفهم حتى تعرّفوا له {وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي والحالُ أنهم منكرون له لطول العهدِ وتبايُنِ ما بين حاليه عليه السلام في نفسه ومنزلته وزِيِّه ولاعتقادهم أنه هلك وحيث كان إنكارُهم له أمراً مستمراً في حالتي المحضَر والمَغيب أُخبر عنه بالجملة الاسميةِ بخلاف عرفانِه عليه السلام إياهم.

8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15